
حوار مع الفنان عبدالله العثمان ونقاش عن الفن الأدائي
وضحى: عبدالله العثمان، فنان وشاعر تعمل بوسائط فنية متعددة، منها التصوير، الفيلم، الفن التركيبي والفن الأدائي. من منطلق ارتباطك باللغة، اود ان أتعمق معك حول مفهومك الخاص للفن الأدائي. لذلك، أود ان اعرف ما هو تعريفك للفن الأدائي؟
عبدالله: صحيح، أنا اتعامل مع التعبير أولا كحالة لغة، كنص. وكيف هذا النص وهذه الجملة التي كانت دائما تكتب في المجاز أو بالفنتازيا في الرواية أو في الشعر، مجموعة صور وحركة وإيقاع، ولكنها مجازية، ويعتبر تعريفها في اللغة غير قابلة للتحقيق. ولكن٬ أنا لذلك اتوجه لحالة الفن، التي تمكنها لتصبح حقيقة. مثلا٬ في اللغة نستطيع أن نقول سوف أرمي كأسا على أرض المطبخ. لكن بالفن٬ أستطيع تنفيذ هذا الشيء وأن ارى انكساراته وانعكاساته وكل مرة يعطيني نتيجة مختلفة. اتعامل معه من منطلق اللغة على أساس جملة غير قابلة للتحقيق، ثم أتوجه للأداء الفني وأمكنه إلى حقيقة قابلة للتصديق. لذلك، أعرف الفن الأدائي في إطار ممارستي الفنية كجملة مجازية أقوم بتحقيقها، وفي الأخير أعتبرها كلغة. وهذه أداة من أدوات التعبير التي من الممكن أن نربطها بين اللغة والأداء الفني. أتعامل دائما بالفن الأدائي كي اكتشف فعل كان بالأول مكتوب، أو جملة سمعتها وأستطيع تحقيقها لردة فعل وحقيقة، من خلال الفن. بالإضافة إلى ذلك، بالنسبة لي، الأداء الفني هو حالة تفاعلية بأي مصدر كان للتعبير عن فكرة يتقاطع معها الآخرين في نفس اللحظة. نتيجتها غير معروفة. ولكن الفعل نفسه يكوّن السياق التعبيري للتجلي في نفس اللحظة. العمل الأدائي بالنسبة لي هي حالة مباشرة لتقديم فكرة ونتائجها في نفس اللحظة للآخرين، إن صح التعريف.
وضحى: بالنسبة لك، عندما تحقق النص المكتوب أو الجملة التي سمعتها، ما هي العناصر المهمة التي تستعين بها في ممارستك للفن الأدائي؟ مثلا جسدك كفنان، السياق الذي تعمل به والمكان والزمن… أود أن اعرف أكثر عن استخدامك لهذه العناصر التي تعتبر مهمة في الفن الأدائي.
عبدالله: أتوقع الفضاء والفنان. الفضاء الفارغ والمرن الذي أتحرك فيه هو جزء مهم مرتبط مع الأداء الفني. لماذا؟ بالنسبة لي، الجملة التي سألفظها أو العملية التي سأنفذها هي التي تتقاطع مع الفراغ المرن. لهذا السبب، ابحث دائما عن المكان المناسب الذي يحقق تطبيق الفكرة المطابقة. فعلى سبيل المثال، نفذت عمل أدائي مستوحى من الجملة التالية: “ابحث عن سيارة متسببة في تعطيل قلب فتاة”، عملية الأداء السيارة، الطريق، الشارع، التحدي في لفت انتباه مجموعة سيارات ومجموعة أشخاص يبحثون معي. في الحقيقة، أصبحوا خلفي ويتبعون السيارة مع الاسئلة التي تواردهم، مثل “وين هذا رايح؟ وليش هذا يسوي هذا الشي؟”. بالنسبة لي، هي حقيقة وفي نفس الوقت ردة فعل داخل الطريق. كيف؟ دائما الطريق، والمساحة والجملة الفنية مرتبطين مع بعضهم في تحقيق مشهد جديد. عند تنفيذي لهذا العمل الفني، لا ابحث عن نتيجة، ولكن أنا أبحث عن اكتشاف جديد يصلني فيه هذا العمل. وكنتيجة، أدى هذا العمل إلى مشاركة العامة والجمهور في تعريف الفكرة.
مثال اخر، العمل الفني “بيت القصدير” عندما استعنت بالقصدير لتغليف البيت في مكان معين. وهكذا، أنا أشارك هذه المساحة وأشارك الآخرين بتجربتي التي تستمر في التفاعل مع عناصر عديدة، منها الشمس… من وجهة نظري، عملية الفن الأدائي هي حالة تفاعل بين المساحة والآخرين. وأشارك فيها نفسي وأشارك فيها تجربة الآخرين. بالنسبة إلى بيت القصدير، قصة المكان مهمة. كيف تاريخ المبنى معمارياً مهم. حياة المبنى وقصة البيت كذاكرة حقيقية جمع سِيَر ذاتية طويلة، تفاعل مع ارواح كثيرة في مواقف الإنسان داخل هذا البيت، هذه العمارة مهمة بالنسبة لقصة المكان واحتوائه لأشخاص عديدين وقصص كثيرة. مثلا، هنالك بيت في جدة كان مكان للأرامل وله قصة مميزة. لذلك، مهم جدا أن ابحث عن عملية الأداء والتناغم بين الفكرة والقصة والمكان. من وجهة نظري، سردية المكان له أولوية دائمة والفكرة التي تستحق ان تطبق.
مثال اخر هو العُلا ذات حضارة تعود جذورها لخمسة آلاف سنة، هذا المكان التاريخي المهم جداً كيف تتفاعل معه وتترك انفعالاتك وهو يمتص الأفكار التي تقدم للآخرين بشكل جديد. من خلال تجربتي، قمت بتسجيل الأصوات في الجبال والعُلا ومدائن صالح وخريبة وخبارة بيدان. كانت لدي تجربة اسطورية لأن هذا المكان تأثر بصوت من السماء. وعدت تقديم الصوت وقمت بتسجيله من جديد في العُلا لتقديم تجربة صوتية حديثة متماهية مع فكرة الاسطورة أو الحقيقة من الصوت السابق.
وضحى: ما هو أول عمل فن أدائي حققته وكيف كانت التجربة؟ بالإضافة الى ذلك، ما الذي جذبك للفن الأدائي كوسيط فني؟
عبدالله: اول تجربة فن أدائي كانت مبنية على نص لغوي، كانت جملة. بالفعل، هو كان نص أدائي مكتوب. تحقق هذا النص إلى أن يكون أداء وواقع حقيقي في الشارع. هو “قفز من علبة بيبسي” هذا النص كتبت فيه:
سأقفز من علبة ببسي، ربما أسميها محاولة لرصد المسافة وسيرتي الذاتية، والرغبة التي لم تتجاوز مشاهدة فيلم قصير صامت. سأقفز من علبة بيبسي، وهذه مسافة شاهقة لشخص مثلي مريض بالبطء والتذكر. ليس بالأمر مزحة لكي تلقى بهذه البساطة. لست شاعرا ولست بنتا وحيدة تجيد تدبر أمر فسحتها. أنا خائف جداً. ومسافتي ما قبل السقوط تكفي لأتحقق من هواجسي ومصيري من هذا العالم لأعرف ان كنت مغشوشا بقميصي وأكمامه أو في الخروج من اليمين أو في معنى التفسير الفرنسي “دعني احبك”، او ما قضيته من الوقت وأنا اقضي حاجتي واقفا. سأقفز من علبة بيبسي، وهذه مسافة شاهقة لشخص مثلي مريض بالبطء والتذكر. إني اخاف القفز واخاف ان تتجمد عروق رأسي وأموت من الربكة أو التذكر.
فهذا نص أدائي بالنسبة لي. فتحققت هنا عملية التحدي عندما كتبت النص وهذه الفكرة المجازية غير قابلة للتصديق. بالتالي، أخذت نفسي في الشارع ووقفت على علبة بيبسي وقررت القفز. لكي أرى هذه اللحظة، وهي لحظة الصدمة في جزء من التعبير. اللحظة التي أرى فيها هذه الأبعاد من القياس لتذكر المواقف، ولوجودك وبحثك وتصوراتك المستقبلية عن نفسك وعن الآخرين والحياة بحد ذاتها. لذلك، بالنسبة لي العمل الأدائي هو أساسه اللغة، وبعدها تتحول هذه اللغة إلى فعل. بناء على ذلك، حرزت على الانطلاقة في تقديم تجارب فنية من خلال الفعل نفسه، وأنا مفتون… والفعل بالنسبة لي محشور في الذهن لا يمكن ان أتنازل عنه في اختباراتي الفنية.
وضحى: هل من الممكن ان تخبرنا إجمالياً عن عدد الأعمال الأدائية التي أنجزتها في مسارك الفني؟
عبدالله: لدي أعمال أدائية كثيرة أنجزتها، من سنة 2011 تقريباً، و آخر عمل في سنة 2018 في الصحراء. كان تقديم اخر عمل أدائي بشكل عفوي وتلقائي، عندما قررت الذهاب لتنفيذه كانت القرارات سهله وبسيطة. أخذت نفسي بدون ان تكون لدي أي فكرة، او مفهوم لعمل، أو معرض، أو مشاركة، بينما حضرت المعدات للتصوير وذهبت الى الصحراء مع الفريق السينماتوغرافي لتنفيذ العمل. كان الفريق مكون من المصور خالد المرزوقي ومساعد الصوت. لم تكن هناك أي خطة لان تكون نتيجة التصوير إلى عمل فني، ولكن كان لدي دافع ومحرك دائمين. عندما أنتج الأعمال الفنية، لا انتظر أي فرصة أو معرض أو مشاركة. بالمناسبة، أتذكر احدى الأسئلة التي طرحت علي سابقا: “ما هو أكثر شيء خدمك في التجربة الفنية؟” وقمت بالإجابة: “قلة الفرص”.
في الواقع، عملت سنوات طويلة بدون عرض ومعارض، وهذا أكثر شيء خدمني لان كان لدي الدافع لأبحث عن افكاري والوصول إلى نتائج فنية وتحقيق تجربتي، بدون أي تقديم أو نقد وبدون بيع أي شيء- بدون أي محرك آخر غير جنون التجربة وهوس المغامرة والأبعاد والحيوات الكثيرة التي اكتشفها من العمل الفني. فهذا ساعدني كثير أن أقدم أعمال فنية لا تشبه أي أحد، أعمال فنية لها وضعها الخاص، المتنوعة والمرتبطة في نفس الوقت في اسلوبها وفي صوتها.
وضحى: أود أن أتعمق أكثر في مواجهاتك المختلفة من خلال أعمالك الأدائية. على سبيل المثال، بعض المرات تكون مواجهة ذاتك في العزلة (مثال الصحراء) أو مواجهة الآخرين بروح المشاركة لتفعيل العمل أو بصفة مشاهدين.
عبدالله: سأتحدث عن فن أدائي قدمته في دبي، و كان من أصعبها تنفيذا، بعنوان “التعذيب من غير لمس”. هذا العمل الفني كان من أصعب التجارب التي خذتها. في حالتي، شعرت وكأنني لوحة معلقة بمسمار على الجدار لمشاهدة قاصية للآخرين. في هذا العمل، تحولت فيه إلى أداء مستمر أمام الآخرين. أثناء الأداء، حاصرت نفسي داخل غرفة زجاجية لمدة ثلاث ساعات استمع فيها إلى 21 اغنية عربية. وكان الهدف هو أن أترك موقفي لناس مؤثرين والناس الذين من الممكن التأثير بهم. لذلك، أخذت الموضوع لمساحة جديدة وتوعية اجتماعية مختلفة بأهمية الموسيقى ودورها وتأثيرها على الانسان ووجوده وتأثيره على عاطفته واستخداماته. وأما بالنسبة لقصة “التعذيب من غير لمس” هي نابعة من قصة شخصية حدثت بصدفة. كنت في رحلة برية في جبال الطائف جالسا بالمرتبة الثانية في السيارة ومستمعاً لإحدى الركاب يقول انه قام بتحميل ملف لتجارب الـ سي.آي. ايه يحتوي على موسيقى عربية استخدمت في تعذيب الإنسان بسجن أبو غريب في معتقل غوانتانامو، وهذه القصة دفعتني للبحث في التأثير. هل من الممكن فعلاً ان الـ سي.آي.ايه تستخدم موسيقى عربية، أو أي موسيقى بالعالم، لهذه التجارب التعذيب؟ فكانت هذه الحكاية التي استمعت اليها في الطريق، وبالأخير تحولت إلى عمل فني. فتنت في التجربة، فتنت بالمحاولة، فتنت في الوقوف مع الانسان والوقوف مع هذه القوة المذهلة الكونية غير المنتهية من الموسيقى، استمع اليها تاركا كل شيء. ولكن، هل كنت واعياً بان عملية تنفيذ هذا الأداء أمر سهل أو صعب؟ لم أكن اعرف. الخلاصة من هذا الأداء هي ردود فعلي التي مكنت التجربة بأن ترسم رسالتها الخاصة. أنا لم آتي بأي توقعات عندما نفذت هذا الفعل واتخذت هذه المغامرة. على العكس تماما، أنا اترك الحرية للتجربة ذاتها وهي التي تحقق نتيجتها أو تبحث عن اكتشافات جديدة وتلهم الآخرين من خلال الاستمرارية. دفعتني هذه التجربة للعمل على كتاب بهدف ان اكتشف الانسان الجديد الذي كنتيجة هذا العمل الأدائي.
وضحى: لاحظت أن هنالك عنصر شائع في أعمالك الفنية، وهو عنصر الإخفاء والكشف. ما سبب استخدامك لهذا العنصر؟ وهل تستخدمه عن قصد؟
عبدالله: صحيح، اكتشفت ان هنالك رابط صغير له علاقة بالإخفاء والكشف في الكثير من اعمالي الفنية. المصدر يضل واحد، ولكن كيف أخفي جزء واكشف جزء آخر من نفس المصدر؟ اتوقع هو المحرك الذي يدفعني لتطبيق اعمال فنية أو لاكتشاف اسلوب فني يميل مع قصتي الشخصية. الفن العملي “سؤال” هو احدى اعمالي أينما اخفيت فيه السؤال والاجابة، ولكن كشفت عن ردة فعل الآخرين. بالنسبة إلى “بيت القصدير”، اخفيت البيت وكشفت عن بيت آخر. مثال اخر هو اخفائي للموسيقى التي استمعت اليها في العمال الادائي “التعذيب من غير لمس” ولكن كشفت عن ردة فعلي. من هذا المنطلق، النتيجة هي مفرج جديد يساعد على سردية حكاية جديدة. كما يعطيني مساحة لتحوير الأشياء. أنا لا أقدم الا جزء من حقيقة شيء محصور بيني والآخرين والمساحة بتفاعلنا ومشاركتنا للتوصل إلى نتيجة خاصة للفكرة.
وضحى: ما هي وجهة نظرك بالنسبة إلى التوثيق؟ هل تعتبره كجزء لا يتجزأ من ممارستك الفنية والأعمال الأدائية؟
عبدالله: بالنسبة لي، التوثيق هو وسيلة إلى استمرارية ودوام الشيء، ويكون معتمد على رصد حدث. لذلك، عملية التوثيق مستمرين بها كحالة رصد عامة لأحداث في الفن أو بشكل يومي. عندما نوثق الزمن والحالة والتاريخ، يتحولون لاحقا إلى جزء من وثائق تاريخية مهمة جداً جداً. حدثت القصة واستمرت في صنع تراث خاص. الشعوب الذين كتبوا على جبل قديم قبل عشرة آلاف سنة صنعوا جزء من التراث بسبب التوثيق، بكل بساطة. الزمن يؤكد وجود الأفعال.
وضحى: بناء على نقطة “وجود الأفعال”، هل من الممكن أن نعرف الفن الأدائي من هذا المنطلق؟
عبدالله: نعم، الأداء يكون مبني على فعل مستمر. ولكن من الممكن أن يتغير في التعريف وفي التعبير، ولكن أساسه هو الفعل. وهذا الفعل الفني يكون مباشر في الاكتشاف أو بالتعبير. فهو الفعل و مستمر في الفعل الفني، لان بالنسبة لي اريد ان افعل و أمكن الفعل من أن يعطي نتائج. وهكذا، الأداء الفني هو معادلة تنكون من الفعل والفاعل (أنا) والمفعول والمفعول به.
جميع الصور نُشرت بتصريح من عبدالله العثمان